من الحقائق العلمية الطريفة والغريبة في الوقت ذاته، أن الإنسان تمكن من الهبوط على سطح القمر ودراسة مجاهل الفضاء البعيد وأعماق المحيطات، لكنه لا يزال عاجزاً حتى اللحظة عن فك أسرار الرشح والزكام، الذي يصر الجميع على التقليل من شأنه بالقول انه ليس مرضاً كغيره من الأمراض المعروفة، بل مجرد عارض صحي بسيط.
أعلن علماء أميركيون أنهم تمكنوا، بعد أبحاث استمرت أكثر من عشر سنوات، من كشف أسرار الرشح، وذلك بفك شيفرة 99% من جينوم سلسلة فيروساته، كما أنهم وضعوا خارطة تفصيلية لمخاطر هذه الفيروسات.
ومن الناحية الطبية، بات المختصون يعرفون أن هناك أكثر من 105 أنواع مختلفة من الفيروسات المسببة للرشح، والمشكلة التي تواجههم هي أن هذه الفيروسات دائمة الحركة، مما يجعل تعقبها مسألة معقدة أكثر من تعقب مسببات الأمراض الخطيرة ذاتها.
وقال الدكتور ستيفن ليجيت خبير أمراض الحساسية في كلية الطب التابعة لجامعة ميريلاند، انه يستطيع القول بكل ثقة انه وزملاءه وضعوا أيديهم على «كعب أخيل»، مستخدماً العبارة المأخوذة من الأسطورة اليونانية القديمة عن أخيل الذي ألقي في النهر، والمقصود هنا أنه وزملاءه تمكنوا من وضع اليد على نقطة ضعف الرشح.
وتكمن أهمية الأبحاث والنتائج التي توصل إليها الدكتور ليجيت والدكتورة آن بالمينبيرغ من جامعة ويسكونسن في أنها عملت على تفكيك شيفرة سلسلة الفيروسات، مما يفتح المجال، في الوقت ذاته، لكشف أسرار الربو والأزمات الأخرى التي تصيب الجهاز التنفسي، كما تقول الدكتورة كلير فريزر من جامعة ميريلاند في البحث الذي نشر على شبكة الإنترنت يوم الخميس الماضي.
وتضيف قائلة ان فيروسات الرشح مسؤولة عما لا يقل عن نصف نوبات الربو، وبفك شيفرة هذه الفيروسات بات في الإمكان القول، وذلك للمرة الأولى، ان طبيعة الفيروسات المسببة للربو أيضاً قد باتت معروفة هي الأخرى، وبالتالي صار في الإمكان تصنيع عقار كفيل بالقضاء على هذه الفيروسات مما يمثل قفزة كبيرة في عالم الطب، ومساعدة الملايين على التخلص من الربو.
وكشف العلماء والباحثون في هذا البرنامج الطبي الطموح أن هناك قرابة سبعة آلاف وحدة كيميائية في جينوم فيروسات الرشح، بالإضافة الى عشرة أنواع من البروتينات تحتاجها هذه الفيروسات لتتمكن من اختراق الخلايا السليمة وللتوالد.
ومن خلال مقارنة الجينوم في ما بينها، اكتشف العلماء أن في الإمكان ترتيبها في ما يشبه شجرة العائلة اعتماداً على الصفات المتشابهة بينها.
ويقول العلماء انهم لاحظوا، بعد ترتيب شجرة الجينوم، أن بعضها دائم الحركة والتغير، لا يهدأ، في حين أن البعض الآخر لا يتغير أبداً.
وبالنسبة الى النوع الأخير، يقول العلماء والباحثون ان الأجزاء غير المتحركة وغير المتغيرة من الجينوم هي التي تلعب الدور الرئيسي في رحلة تطور الرشح، لأن الفيروسات لا تسمح لهذه الأجزاء المحصنة بالتغير.. وبالتالي فأي عقار يمكن تصنيعه في المستقبل لا بد أن يكون موجهاً بالتحديد لهذه الأجزاء من الجينوم.. ويؤكد العلماء أن جميع الجينومات المكتشفة يمكن أن تستجيب للعقار ذاته.
وتجدر الإشارة إلى أن الكلفة المالية لتطوير عقار جديد في هذه الأيام تقدر بسبعمائة مليون دولار. ويقول الدكتور ليجيت انه على الرغم من التكلفة العالية، فمن المؤكد أن تصنيع عقار فعال للرشح يمكن أن يتحول إلى ما يشبه الدجاجة التي تبيض ذهباً للشركة المصنعة، لكن المشكلة تكمن في التعارض بين الأنظمة المعمول بها في هذا الشأن.
ويختم هذا الطبيب المتخصص بقوله ان في الإمكان تصنيع مصل فعال للوقاية من الرشح، لكن الدكتورة بالمينبيرغ تبدو أقل تفاؤلاً، إذ تقول انه لن يكون هناك مصل واق للرشح، بل عقار يتناوله المصاب.
ومن العقبات الرئيسية التي تعيق العمل في التوصل لأدوية شافية، هي أن الناس يعتبرون الرشح عارضاً صحياً خفيفاً لا يستحق شراء دواء مكلف.. وفي الجانب الآخر فإن إدارة الغذاء والدواء الأميركية، وهي الجهة الوحيدة المخولة بالتصريح باستخدام الأدوية بعد التأكد من صلاحيتها، لا تبدو متحمسة بالتصريح لعقار لمعالجة عارض صحي بسيط، لكن يحمل احتمال أن تكون له تأثيرات سلبية.
وبين المرضى غير الراغبين في شراء أدوية مكلفة لعارض صحي بسيط، وعدم حماسة هذه الإدارة، تبدو الشركات المنتجة للأدوية غير مهتمة كثيراً لاستثمار الملايين في مشروعات لا تحظى بالاهتمام، وبالتالي لن تدر عليها ما يكفي من الأموال المستثمرة.